
أطلقت البنوك المركزية في أواخر عام 2021 أكبر سلسلة ارتفاعات كبيرة في أسعار الفائدة وأكثرها تنسيقا على مدار أربعة عقود لاحتواء تفشي التضخم في أعقاب جائحه كورونا ، وتوقع كثير من خبراء الاقتصاد تباطؤا عالميا حادا في النشاط الاقتصادي، إلا أن عددا كبيرا من الاقتصادات أظهر تماسكا بشكل جيد نسبيا، ولم تحدث حالات تباطؤ إلا في بعض الاقتصادات.
القروض العقارية هي غالبا ماتعد أكبر التزام
أن سمات الإسكان والقروض العقارية، التي تتباين إلى حد كبير بين الدول وطرأت عليها تغيرات في السنوات الأخيرة، هي أحد الأسباب الرئيسية لهذا الأمر ، ولا يزال الإسكان أحد العوامل البارزة الدافعة للصدمات الاقتصادية، وهو ما يُعزى إلى حد كبير إلى دوره المحوري في الميزانيات العمومية للقطاع الخاص ، فالقروض العقارية هي غالبا ماتعد أكبر التزام على الأسر معيشيا ، ويمثل الإسكان أهم أشكال ثروتها ، كما يساهم قطاع العقارات أيضا بنسبة كبيرة في الاستهلاك، والاستثمار، والوظائف، وأسعار السلع الاستهلاكية في معظم الاقتصادات، وغالبا ما تتعرض البنوك وشركات الوساطة المالية بدرجة كبيرة لمخاطر قطاع الإسكان، مما يجعلها مكوِّنا أساسيا في انتقال أثر السياسة النقدية.
أسعار الفائدة
و منذ الأزمة المالية العالمية، أحرز خبراء الاقتصاد تقدما كبيرا في شرح طريقة عمل السياسة النقدية عبر أسواق الإسكان، وبشكل أدق في تحديد قنوات انتقال أثر السياسة النقدية المتبعه من قبل البنوك المركزيه التي تعمل من خلال أسواق الإسكان والقروض العقارية ؛ والتي تمثلت أولا ، في التغيرات التي تطرأ على أسعار الفائدة الأساسية تؤثر تأثيرا مباشرا على مدفوعات القروض العقارية الشهرية التي يسددها أصحاب المساكن الذين حصلوا على قروض عقارية بأسعار فائدة متغيرة. ووفقا لبحث أجراه ماركو دي ماجيو وآخرون، ترتفع المدفوعات أيضا حينما ترتفع أسعار الفائدة الأساسية، مما يقلص الدخل المتاح، وأيضا الاستهلاك في بعض الأحيان، من خلال ما يُشار إليه عادة باسم “قناة التدفق النقدي” و ثانيا، أسعار المساكن حساسة للغاية للتغيرات في أسعار الفائدة، التي تحدث من خلال تطور المعدل الأدنى للعائد المقبول، وبسبب التوقعات بشأن العائدات المستقبلية ، ويمكن لقناة التوقعات هذه، التي يُشار إليها باسم قناة علاوة المخاطر، أن تؤثر على مقدار رغبة المشترين في الاقتراض ومدة الاقتراض، وهو ما يؤثر بدوره على أسعار المساكن وشروط الائتمان ، و ثالثا، حينما تتذبذب أسعار العقارات بسبب تغير أسعار الفائدة الأساسية، فإن التأثيرات على الثروة يمكن أن تؤثر على استهلاك أصحاب المساكن. وبالإضافة إلى هذا، يمكن لأصحاب المساكن في كثير من الدول استخدام منازلهم كضمان عقاري للاقتراض وتمويل الاستهلاك ، وحين تتذبذب أسعار العقارات، يتذبذب معها حجم القروض المضمونة بأصول، ويحذو الاستهلاك حذوها.
القروض العقارية
و تعتمد قنوات انتقال أثر السياسة النقدية هذه على السمات الأساسية لأسواق الإسكان والقروض العقارية ، فعلى سبيل المثال، تتحدد القوة النسبية لقناة التدفق النقدي حسب نسبة القروض العقارية بسعر فائدة ثابت – الذي، بطبيعة الحال، لا يُعَدَّل لمراعاة التغيرات في أسعار الفائدة الأساسية – من بين جميع القروض العقارية القائمة ،ويعني وجود مزيد من القروض بسعر فائدة ثابت شعور عدد أقل من المقترضين بوطأة ارتفاع أسعار الفائدة الأساسية، أو تحقيق استفادة من تراجعها ، كما أن بعض السمات الأساسية تتباين تباينا كبيرا من بلد لآخر ؛ فعلى سبيل المثال، يمكن أن تتفاوت نسبة القروض العقارية القائمة بأسعار فائدة ثابتة مما يقرب من الصفر كما هو الحال في جنوب إفريقيا ، وبلغ أكثر من 95% في المكسيك والولايات المتحدة ، لذلك ؛ فهل يمكن لهذه التفاوتات أن تفسر سبب اختلاف درجة انتقال أثر السياسة النقدية على مستوى البلدان؟ إننا نستنتج أن للسياسة النقدية آثارا أكبر على النشاط الاقتصادي في الدول التي تنخفض فيها نسبة القروض العقارية بسعر فائدة ثابت، وفي الدول التي لديها نسبة كبيرة من القروض العقارية بسعر فائدة ثابت، ستؤثر التغيرات التي تطرأ على أسعار الفائدة الأساسية على المدفوعات الشهرية لعدد أقل من الأسر، وعادة ما سيكون الاستهلاك الكلي أقل تأثرا ، وبالمثل، نشهد آثارا أقوى للسياسة النقدية في دول يزيد فيها عدد الأسر التي تتحمل ديونا وكما أكبر من الاقتراض، حيث سيتعرض عدد أكبر من هذه الأسر لمخاطر التغيرات في أسعار الفائدة على القروض العقارية.
ارتفاع الطلب
وللحقيقه ؛ فإن لخصائص أسواق الإسكان دور مهم أيضا؛ فانتقال أثر السياسة النقدية يصبح أقوى إذا كان عرض الوحدات السكنيه محدودا بشكل أكبر؛ فعلى سبيل المثال، ينطوي انخفاض أسعار الفائدة على انخفاض تكاليف الاقتراض على المشترين وارتفاع الطلب، وتؤدي قلة المعروض إلى ارتفاع الأسعار، ويصبح أصحاب المساكن الحاليون أكثر ثراءً ويزيد استهلاكهم، بما في ذلك الاقتراض بضمان المساكن.
ويصدُق هذا الأمر أيضا على حالات المغالاة في تقييم أسعار المساكن، والارتفاعات الحادة في الأسعار غالبا ما تكون مدفوعة بنظرة مفرطة في التفاؤل تجاه ارتفاع سعر الصرف، ويترافق هذا عادة مع اقتراض مفرط يمكنه، حين ترتفع أسعار الفائدة، أن يؤدي إلى حالات حبس الرهن وهبوط الأسعار، ومن ثم انخفاض مستويات الدخل وتراجع الاستهلاك.
الأزمة المالية العالمية
علاوة على هذا، شهدت أسواق الإسكان والقروض العقارية تغيرات منذ الأزمة المالية العالمية والجائحة ، ففي بداية دورة الارتفاع التي أعقبت الجائحة، تراجعت أسعار الفائدة الفعلية على القروض العقارية في عدد كبير من الدول إلى أقل مستوياتها على الإطلاق على مدار عدة عقود، حيث اغتنم الأفراد في ذلك التوقيت فرصة انخفاض أسعار الفائدة للحصول على قروض منخفضة التكلفة في العقد الثاني وأوائل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وبالإضافة إلى هذا، زاد متوسط آجال استحقاق القروض العقارية خلال تلك الفترة، بسبب زيادة نسبة القروض العقارية بسعر فائدة ثابت في كثير من الدول.
تحسين الجدارة الائتمانية
وفي غضون ذلك، شدد كثير من أجهزة الرقابة المالية السياسات الاحترازية الكلية المتعلقة بتمويل المساكن بعد الأزمة المالية العالمية، وتمثل الهدف من هذه السياسات في تقليص حجم الإقراض المنطوي على مخاطر الذي حفَّز حدوث دورات الانتعاش والركود في كثير من الدول خلال فترة منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وقد حقق ذلك الإجراء النتائج المرجوة بحلول عام 2020، بتحسين الجدارة الائتمانية والحد من الرفع المالي، وبعيدا عن هذا، دفعت الجائحة الأشخاص إلى الابتعاد عن مراكز المدن والتوجه إلى مناطق يتوافر فيها مزيد من العرض ، وفي هذا السياق، فأن هذه التحولات ساعدت على إضعاف بعض آليات انتقال أثر السياسة النقدية، أو على الأقل تأخيره، في العديد من الدول ، وقد زادت قوة انتقال الأثر في بعض الاقتصادات، مثل الاقتصادات التي لديها عدد أقل من القروض العقارية بسعر فائدة ثابت، ومستويات أعلى من الديون، ونقص في عرض المنازل ، إلا أنه ضَعُفَ في اقتصادات أخرى، حيث تحركت هذه العوامل في الاتجاه المعاكس.
السياسة النقدية
وفي النهايه أن تكوين فهم عميق لأسواق الإسكان والقروض العقارية يراعي الخصوصية القُطرية أمر مهم في المساعدة على معايرة السياسة النقدية، ففي الدول التي يكون فيها انتقال الأثر عبر قنوات الإسكان قويا، يمكن المساعدة على التعرف على البوادر المبكرة على التشديد المفرط للسياسة النقدية من خلال مراقبة تطورات أسواق الإسكان والتغيرات التي تطرأ على نسب خدمة ديون الأسر. وعندما يكون انتقال أثر السياسة النقدية أضعف، يمكن اتخاذ إجراء مبكر أقوى عند ظهور بوادر ضغوط تضخمية أو انكماشية.